قراءة في كتاب اليهود والماسون في مصر
عبد الله الصالح العثيمين
هذا الكتاب صدر من دار الزهراء للإعلام العربي في القاهرة سنة 1417هـ ويتألف من 340 صفحة مشتملة على تعريف مختصر بمحتواه بقلم مؤلفه الدكتور علي شلش، وقسماه كل منهما يتكوَّن من عناوين عديدة بمثابة فصول، أما القسم الأول؛ وهو الخاص باليهود في مصر، فقد أوجز المؤلف الكريم في تعريفه للكتاب تناوله فيه بقوله:
(إن فكرة كون اليهود عاشوا في اضطهاد دائم فكرة أوروبية الموطن والهوى دعمها اضطهادهم في أوروبا، ولا تصلح أن تكون منطلقاً لكتابة تاريخهم الحديث؛ لا سيما في البلاد العربية وعلى رأسها مصر. والبديل الموضوعي هو تناول مادة هذا التاريخ بمعزل عن الهوى السياسي. وهذا ما حاولت عمله في القسم الأول من الكتاب. وقارئ تاريخ اليهود في مصر الحديثة يرى أن اليهود ازدهروا في ذلك التاريخ حتى سنة 1948م على نحو لم يحدث إلا في ألمانيا قبل هتلر وفي الولايات المتحدة الأمريكية منذ تأسيسها).
ولقد أجاد الدكتور شلش في دراسته للموضوعات التي تناولها في ضوء ما ذكره من محاولة لكتابة التاريخ كتابة بعيدة عن الهوى.
على أن هذه القراءة ستركِّز على القسم الثاني من كتاب الدكتور علي؛ وهو الخاص بالماسون في مصر. وقد بدأ دراسته عن هذا الموضوع بمدخل أبان فيه ما ذكرته دوائر المعارف: البريطانية والأمريكية واليهودية والسوفيتية عن الماسونية؛ تعريفاً ونشأة وتنظيماً وانتشاراً. وأشار إلى أن من أعضائها شخصيات عالمية مشهورة من مختلف الديانات والنحل. ومن أولئك أربعة عشر رئيساً أمريكياً؛ ابتداءً من جورج واشنطن إلى جيرالد فورد، وعدد من ملوك بريطانيا وروسيا، والموسيقي موتزارت، والمفكران جوته وفيختة، والشاعر فولتير. وأشار إلى أنه تأسس في فلسطين خلال الحكم العثماني ستة محافل ماسونية أولها في القدس عام 1873م، وأصبحت تلك المحافل تضم، عام 1970، 3500 عضو من اليهود والمسيحيين والمسلمين والدروز. وخلص الدكتور علي من عرض ما ذكرته دوائر المعارف عن الماسونية إلى استنتاجات من أهمها:
1- أنها نشأت في إنجلترا متأثرة بالشكل التنظيمي لنقابات البناءين.
2- أنها بدأت سرِّية، ثم أصبحت محافلها علنية في أمريكا بالذات.
3- أنها دخلت أمريكا على أيدي اليهود.
4- أنها ظاهرة نسبية تختلف في نشأتها وتطورها من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى آخر.
وبعد ذلك انتقل الدكتور علي إلى الحديث عن الماسونية في مصر؛ وهذا هو موضوع دراسته المحدد. فذكر أن مصر كانت أول بلد عربي تدخله الماسونية قادمة من أوروبا. وقد مرَّت بالمراحل الآتية:
1- مرحلة التأسيس، وتمتد من غزو نابليون لمصر سنة 1798م حتى الاحتلال البريطاني لها سنة 1882م.
2- مرحلة الاستقرار، وتمتد من الاحتلال البريطاني حتى الحرب بين العرب واليهود عام 1948م.
3- مرحلة الانكماش، وتمتد من تلك الحرب إلى قرار إلغاء محافلها سنة 1964م.
لقد أنشأ نابليون محفلاً ماسونياً في السنة التي احتل فيها مصر سُمِّي (محفل إيزيس)، وأدخل فيه كثيراً من رجالات البلاد؛ مصريين وشاميين، لكن ذلك المحفل توقَّف بعد رحيل الفرنسيين من مصر. ثم أنشأ بعض الإيطاليين في الإسكندرية محفلاً عام 1830م، وبعد ذلك توالى إنشاء المحافل، واتَّحدت عام 1872م، فكوَّنت ما سُمِّي (الشرق الأعظم الوطني المصري)، وكان ممن ضمَّتهم تلك المحافل الأمير حليم، والأمير عبد القادر الجزائري، وجمال الدين الأفغاني، الذي بدا - كما ذكر الدكتور علي - أنه رأى في الماسونية وسيلة للإصلاح والتغيير. ولذلك ورد في خطاب طلبه الانضمام إليها سنة 1875م:
(يقول مدرس العلوم الفلسفية بمصر المحروسة جمال الدين كابلي، الذي مضى من عمره سبع وثلاثون سنة، بأني أرجو من إخوان الصفاء، واستدعي من خلاَّن الوفاء؛ أعني أرباب المجمع المقدس الماسون، الذي هو عن الخلل والزلل مصون، أن يمنُّوا عليَّ، ويتفضَّلوا إليَّ، بقبولي في ذلك المجمع المطهَّر، وبإدخالي في سلك المنخرطين في ذلك المنتدى المفتخر. ولكم الفضل).
وجاء الرد على طلب الأفغاني في بداية عام 1878م بلغة عربية ركيكة هكذا:
(إلى الأخ جمال الدين محترم
إنه لمعلوم لديكم بأن في جلسة 28 الماضي، وبأغلبية الآراء، صار انتخابكم رئيساً محترماً لهذا اللوج لهذا العام. ولذا قد نهنيكم ونهني ذواتنا على هذا الحظ العظيم. وعن أمر الرئيس محترم الحالي أدعو أخوَّتكم للحضور يوم الجمعة القادم (11 الجاري الساعة 2) عربي بعد الغروب إلى محفل هذا اللوج لأجل استلامكم القادوم بعد إتمام ما يجب من التكريز الاعتيادي. ثم سيصير يوم الخميس (10 الجاري الساعة 6) افرنكي مساء تكريز رئيس محترم لوج كونكورديه. فالرجا حضوركم في اليوم المذكور للاشتراك في الأشعال. وفي الحالتين ملابسكم تكون سوداء ورباط الرقبة والكفوف بيضاء. واقبلوا منا العناق الأخوي.
كاتب السر: نقولا سكروج)
وقد تَحدَّثت جريدة التجارة عن خطبة الأفغاني في 21 - 1 - 1879م في المحفل الذي حضره كثير من وجوه المجتمع؛ مسلمين وغير مسلمين، وأشارت إلى أنه بيَّن مقاصد الماسونية. وعندما ذهب إلى القنصل الفرنسي بمصر ليحثَّه على العمل لإجبار الخديوي إسماعيل على التنازل عن الحكم لابنه توفيق خاطبه بقوله: (لقد أتيت بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن الحزب الماسوني والحزب الوطني الحر المنتشر في جميع أنحاء القطر المصري).
ذلك شيء مما ذكره الدكتور شلش عن مرحلة تأسيس الماسونية في مصر، التي بدأت بالغزو الفرنسي لها. فماذا عن مرحلة الاستقرار الممتدة من الاحتلال البريطاني، سنة 1882م، لذلك البلد حتى قيام الدولة الصهيونية عام 1948م؟
هذه المرحلة مرحلة ازدهار الماسونية؛ إذ استقطبت شخصيات مصرية لها مكانتها الدينية أو السياسية أو الثقافية، لقد اختار الماسونيون، عام 1888، الخديوي توفيق (أستاذاً أعظم) لهم، وقام وفد منهم بمقابلته، بينهم اللغوي الشاعر حفني ناصف، الذي ألقى قصيدة أمامه؛ مشيراً فيها إلى شعار الماسونية الخادع؛ وهو الحرية والمساواة والإخاء، وقد استهلها بقوله:
الحر يدرك بالتوفيق ما طلبا
وبالمساواة كلٌّ يبلغ الأربا
وبالإخاء رخاء العيش مقترن
تربو رباه إذا عهد الإخاء ربا
وما المساواة إلا العدل وهو على
مصر بتوفيقْ مدَّت روحه طنبا
ثم خلفه في المنصب إدريس راغب، اليوناني الأصل، قرابة ثلث قرن، ثم محمود فهمي قطري باشا، فمحمد رفاعة بك، فأحمد ماهر باشا.
ومن أولئك الذين لمعت أسماؤهم في العقد الثاني من القرن الماضي ولي الدين يكن، وإبراهيم اليازجي، وخليل مطران، وحفني ناصف، وإسماعيل صبري، وسعد زغلول، الذي وضعت المجلة الماسونية، عام 1921م، صورته على أولى صفحاتها بعنوان: (مشاهير رجال الماسون)، وكتبت تحتها: (حضرة صاحب المعالي الأخ فائق الاحترام سعد زغلول باشا، نائب أستاذ أعظم شرف بالمحفل الأكبر الوطني المصري).
ومما قاله شعراء في الثناء على الماسونية قول محمود رمزي نظيم في تهنئة الشيخ أحمد مخلوف، الذي انتخب سنة 1921م رئيساً لمحفل المروءة:
يا معشر الماسون أنتم عصبة
الله تمَّم نورها وسناءها
تتعاونون لنشر كل فضيلة
أخفى الزمان عن العيون رواءها
إن المروءة لا تزال مصونة
بين الورى ما دمتمُ نصراءها
ومن ذلك قول أحمد زكي أبو شادي أمام وفد من المحفل الأكبر في بلدة بورسعيد:
باسم الإخاء أحيي كلّ مأثرة
فيكم وإنصاف مغبون ومظلوم
ثم قال عن الماسونية:
لها المساواة نبراسٌ كأن بها
سراً من الشمس في وحي وتعميم
وبعد ذلك تحدَّث الدكتور شلش عن المرحلة الثالثة من مراحل الماسونية في مصر؛ وهي مرحلة الانكماش الممتدة من عام 1948م إلى عام 1964م حين صدر أمر بإقفال محافلها. وذكر أن من أسباب انكماشها هجرة أعداد كبيرة من أعضائها اليهود إلى فلسطين المحتلة بعد قيام الدولة الصهيونية، وقيام الثورة المصرية التي غيَّرت كثيراً من وجوه الحياة، وجلاء البريطانيين عن مصر عام 1954م. ومع عدم اتخاذ حكومة الثورة موقفاً حازماً في الحد من نشاط المحافل الماسونية فإن العدوان الثلاثي على مصر، سنة 1956م، قد جعل كثيراً من الناس يقفون ضدها. وفي عام 1964م أصدرت الحكومة قراراً بحل كل المحافل الماسونية. وبذلك قضي عليها رسمياً، لكن عندما أصبح السادات رئيساً لمصر عادت نوادي الروتاري لتحلَّ محلَّ تلك المحافل. وكثيراً ما غيَّرت الحركات لبوسها وإن كان جوهرها هو جوهرها.